جاء في سيرة الجاحظ أنه مات والكتاب على صدره، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه ولما أدرك الكتاب فداحة فعلته رثى حاله وراح يقول للجاحظ معتذرا: أيها المضطجع تحت ظلي، أيها المقتول بسيف من أوراقي، يا «أبا عثمان»، أيها المدفون تحت ركامي، إني أعترف بجريمتي، قتلتك مرة وهأنذا أُقتل كل يوم ألف مرة ، عذراً يا « أبا عثمان» فأنت الذي اضطررتني إلى ذلك، لم تكن تمنحني وقتاً للراحة، فأنت تحدق بعينيك الجاحظتين في وجهي ليلاً ونهاراً، لقد أصبحت شبحاً يخيفني لم أجد منه خلاصاً. لقد كنت أعيش في بيتك كريماً متعباً، كلما عنت لك نزوة أمسكت بتلابيبي، وجررتني إليك يستوي عندك آخر الليل وساعات النهار، لم أجد من يخلصني منك إلا الموت. يا «أبا عثمان» إن قومك أوفياء لك، لقد أخذوا لك بالثأر مني، فهم يمارسون ضدي أبشع صور الانتقام، أخبرهم أنك سامحتني علهم يخففون من غلوائهم في تعذيبي. إنهم يعدون عليّ أنفاسي، يطاردونني يضعون في طريق ميلادي ألف دهليز وباباً واحداً، فلا أتجاوزه حتى أصبح مسخاً، فيسخرون مني، ثم يصلبونني على واجهات المحال، حتى تغير الشمس لون جلدي، ويأخذ وجهي من الغبار حجاباً، وبجواري أكوام الدفاتر، وعلب الأقلام، ينظر إليّ قومك نظرة ازدراء، بل إن أكثرهم لا ينظرون، ربما أخذني أحدهم فقربني من عينيه، ثم حدّق في وجهي بنظراته المخيفة ، حتى إذا ألقاني؛ لم أكد أستقر في مكاني حتى يمد يده إلى قلم أنيق، فيدفع ثمنه الذي يساوي قيمة خمسة مثلي «فقط ليتجمل به». ذات يوم أشفق عليّ أحدهم؛ رفعني ففرحت، قربني من وجهه وفجأة ضربني بكفه على وجهي، فلما رآني غضبت؛ قال: عفواً.. إني أمسح الغبار عن وجهك. دفع ثمني ممتعضاً، سررت بذلك، أخذني وفي طريقنا عرّج على محل لبيع الأحذية، بهرتني روعة ذلك المحل، أجلسني بين الأحذية، ودون مفاوضة، اختار حذاء دفع ثمنها الكبير، وهو باسم يثني عطفه بكل زهو. أدخلني بيته الأنيق، ووضعني مباشرة في هذه الزنزانة التي قبعت فيها سبع سنين عجاف، بعد أن حكم عليّ بالسجن مادام حياً. إني أستجديك أيها المقتول أن تشفع لقاتلك عند سجّانه، أنا لا أطلب الحرية، فلم يبق لي إلا مطلب واحد: إني أتمنى موتاً يلقيني عن ظهر الأرض الضيق إلى بطنها الفسيح. آه.. يا «أبا عثمان» كأني بك تطل من وراء القرون، تنظر إليّ من خلال الدموع التي اغرورقت بها عيناك الجاحظتان، تمد إلي يدك البيضاء، ولهيب الهجير يحرقني، تأخذني، تضمني بعنف إلى صدرك الحنون، حتى أتماهى فيك، ونخرج متسللين من الباب الخلفي لهذا الوجود.